بسم الله الرحمن الرحيم
الموت ينام بالقرب من احلامه :
" سأقضي ما تبقى من أيام حياتي أبحث عن جثته . في كل مكان : في كوبا في فنزويلا ، في بوليفيا ، لا يهم . فأنا لا أصدق انهم أستطاعوا القضاء عليه وانا لا اصدق انه مات ولا أصدق انهم أحرقوه ."
لم يصدق الوالد أنه مات كان يتصور أن الموت يهرب من تشي وأنه سئم مطاردته .
وكان الموت بالنسبة الى "تشي" الحقيقة اليومية يرافقه خطوة خطوة كالربو والزفير والشعلة المتململة والنوم . كان ينام بالقرب من أحلامه ، يشاطره في احلامه ، ينافسه في أحلامه .
مرة ، قال لرفيق له كان يقاتل بجانبه في الادغال ، والرصاص ينهال عليهما :
-"اتدري كيف اتمنى ان أموت ؟كما تمنى قصة بطل "جاك لندن " . ادرك انه سيتجمد حتى الموت في أراضي الاسكا البيضاء المقفرة ،فاستند بهدوء الى شجرة ، واستعد لمواجهة الموت بصمت وكبرياء . كم اتمنى الان لو استريح على جذع شجرة ،ليهدأ الزفير داخلي ، وأموت ، بعد ان أفرغ رصاص بندقيتي في الجنود القادمين من وراء هذه الأشجار . "
كان ذلك سنة 1957 ، قبل الدخول الى المدينة والانتصار .
ومرة ، قال لكاسترو ، في الرسالة الاخيرة التي وجهها اليه:
- ذات يوم ، سئلنا عن الشخص الذي ينبغي انذاره ام اعلامه عند موت أحدنا .
وفوجئنا جميعا بهذه الامكانية الحقيقية . ثم ادركنا ان الثائر الحقيقي "اما أن ينتصر او يموت . وكثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل . "
كان ذلك سنة 1965 .
ومرة ثالثة ، قال في البيان الثوري الذي وزعه في نيسان 1967 :
-" لا يهمني متى واين سأموت ."
لكن يهمني ان يبقى الثوار منتصبين ، يملأون الارض ضجيجا ، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين .
ثم سقط أخيرا في الخريف ، مع سقوط أوراق الاشجار التعبة .
لكنه لم يحقق امنيته التي رددها امام صديق له في فترة النضال الاولى: لم يمت وهو مستند الى الشجرة ، بل سقط مجندلا في واد صغير ضيق ، بتسع رصاصات ، ربما أقل ،ربما أكثر . والتقطوه وحملوه ووضعوه على طاولة عالية ،ثم قالوا للصحافيين والمصورين والعالم أجمع :
"- هذا هو "تشي" غيفارا . لقد انتصرنا عليه ."
بدأت المرحلة الاخيرة من المطاردة الني استمرت أكثر من سنتين ،واستعملت الولايات المتحدة مختلف الوسائل للقضاء على موجة حرب العصابات التي يقودها "تشي" غيفارا ، في نيسان 1967 ، بعد ان القت السلطات البوليفية القبض على المفكؤ الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه ، واتهمته بالتعاون مع غيفارا وأنصاره ، وسجنته وعذبته لتنتزع منه اعترافا بمكان غيفارا .
وبعد ذلك بفترة قصيرة ، أعلن رئيس الجمهورية البوليفية الجنرال رونيه بارينتوس بأنه واثق هذه المرة من القبض على غيفارا حيا أو ميتا .
ولم يكن بارينتوس يعتمد في عملية مطاردة واصطياد غيفارا على رجاله وحدهم ، ولا على بعض رجال العصابات الذين تخلوا عن غيفارا وحاولوا الكشف عن مكانه ، بل كان يعتمد على قوات متخصصة في حرب العصابات والتصدي للثوار بوسائل علمية مدروسة دقيقة .
القبعات الخضر والحرب المضادة
ففي باناما، أنشأت وزارة الدفاع الاميركية سنة 1949 مدرسة حربية وسلمتها للجنرال بورتر . وفي هذه المدرسة يتدرب جنود أميركيون من مختلف أنحاء اميركا الجنوبية والشمالية ، على يد ضباط يمنازون بكفاءة علمية عالية ، ويتخرجون متخصصين بالحرب في مناطق أميركا اللاتينية الصعبة الشائكة .
لكن هذه المدرسة ادخلت في السنوات الاخيرة بابا جديدا على منهاجها ، وهو على تدريب الجنود على اصول واساليب حرب العصابات ، لمواجهة موجات الثوار في اميركا اللاتينية . ويستمر التدريب اربعين اسبوعا" ، يخضع خلالها الجنود لاشد وأقصى أنواع التدريب العسكري ، ويضع في الظروف نفسها التي سيتعرض لها حين يواجه رجال العصابات في الجبال والغابات .
كان هؤلاء الجنود ، المدربون على ايدي القبعات الخضر - وهو اللقب الذي يطلق على مدرسة باناما - هم الذين يطاردون غيفارا ، وينصبون له الفخ تلو الفخ ، لايقاعه والقضاء عليه .
واستمرت هذه العملية شهورا، حتى جاء الخريف ، واطل شهر تشرين الاول ، غاذا بالجنرال بارينتوس يعلن للصحافيين ان القوات المسلحة ، وهو يقصد فيها القوات التي تدربت في مدرسة باناما ، تحاصر جماعة من رجال العصابات وعلى رأسها القائد رامون وهو احد اسماء غيفارا المستعارة .
وفال بارينتوس هذه المرة سوف نقبض على "تشي" ولن يستطيع ان يهرب منا " .
لكن القوات لم تستطع ان تقبض الا على ثائرين من رجال " رامون " اعترفا بأن تشي هو فعلا قائدهما وأنه موجود في مكان ما بالقرب من منطقة فاليغراندي .وقال الرجلان بأن مرض الربو قد اشتد على غيفارا ، ولم يعد يستطيع التنفس الا بصعوبة ، وانه لا يتحرك الا على ظهر بغل ، وهو لا يهتم بشيء ، ويظهر احتقارا بالغا لحياته .
وبعد ايام من القبض على الرجلين ، وفي مساء بوم الاحد 8 تشرين الاول ، دارت معركة طاحنة بين القوات المسلحة وبين رجال العصابات في منطقة هيغوبراس بالقرب من فالنغراندي واستبسل الثوار ، وفي النهاية ستة من رجالهم ، وبينهم تشي غيفارا .
وتقول بعض الروايات البوليفية عن موت غيفارا ، ومنها رواية القائد الاعلى للقوات البوليفية الجنرال الفريدو اوفاندو ، ان غيفارا قال قبل وفاته ، وهو في ساعات احتضاره الاخيرة: " انا "تشي" غيفارا. لقد فشلت ". لكن الكولونيل سانديكو ، وهو الذي قاد الحملة المسلحة ضد غيفارا وثواره ، ذكر أن تشي ظل فاقدا وعيه حتى مات .
وهناك رواية اخرى ، نسبتها احدى الصحف البوليفية الى بعض الضباط الذين طاردوا تشي غيفارا ، وتقول ان غيفارا اسر حيا ، وحاول الطبيب معالجته من الجروح التي اصيب بها لكن الالم كان شديدا عليه ، ومرض الربو كان يمنعه من التنفس الا بصعوبة .
وقضى ليلة الاحد في حالة نزاع شديد ، يئن من الاوجاع والزفير ، يطلب من الطبيب أن يعالجه ، حتى قضى عليه الام في صباح الاثنين بعد ان خارت قواه تماما وعجز الطب عن اسعافه .
ورواية أخرى تقول ان غيفارا تعرض للتعذيب بعد القاء القبض عليه ، لكنه لم يعترف بشيء بقتله احد الضباط برصاصة سددت الى قلبه .
وكما تعددت الروايات حول مقتله ، تعددت الروايات حول طريقة تعقبه والقاء القبض عليه. ومن هذه الروايات ولعلها الاقرب الى الصحة ، ان احد رجال العصابات ، من رفاق " تشي " القدامى ، وشى به الى السلطات البوليفية بعد ان أغرته الجائزة التي خصصتها هذه السلطات للقبض على عليه ، وهي في حدود خمسة الاف دولار .
وكان مؤلما حقا أن تشي الذي امن طوال حياته بالاخوة الحقيقية والصداقة والاخلاص والتضحية بين البشرية ، وعاش وعاش على هذه الاخوة والصداقة والاخلاص والتضحية ن وتنتهي حياته بان يبيعه رفيق سلاح قديم ، لان المال كان اقوى من القيم والمبادئ التي يمثلها غيفارا او يدعو اليها .
ولم تصدق عائلة تشي انه مات . لا الاب ، ولا الشقيق ، ولا أي فرد من افراد العائلة . وما زالوا ينتظرون بين اللحظة والاخرى ان يحمل اليهم البريد ، او صديق من الاصدقاء ، رسالة من الابن المشرد ، يعلن فيها للعالم انه ما زال حيا ، ويسخر ، كعادته من الموت .
منذ اختفائه قتلوا تشي عدة مرات . وفي كل مرة مان ينفض الموت عنه ، ويبدو انه اقوى واصمد .
هذه المرة ، يبدو ان تشي اقتنع انه مات . وان جثته احرقت فعلا ، كما قالت السلطات البوليفية . ولعله استراح ، لعله لم يعد يضايقه زفير الربو ، ولا المطاردة القاسية المستمرة .
مساء الاحد 15 تشرين الاول ، يقف فيديل كاسترو ، رفيق تشي في النضال ، ويعلن في خطاب دام ساعتين ، وبلهجة حزينة حزينة : اننا متأكدون تماما من موت غيفارا . لقد درسنا جميع الوثائق التي تتعلق بموته : الصور ، فقرات يومياته التي نشرت ، الظروف التي رافقت لحظاته الاخيرة وتأكدنا للاسف أن تشي مات فعلا .
وانا لا اعتقد بان للحكومة البوليفية مصلحة في اختراع كذبة كبيرة كهذه ، قد تنكشف بعد ايام
قلائل . كان يطارد غيفارا في الاسابيع الاخيرة اكثر من 1500 جندي ، مدربين احسن تدريب ، واسطاع هؤلاء ان يقضوا في النهاية عليه . ثم حاولت السلطات البوليفية القضاء ايضا على اسطورته ، فلفقت العبارات الاخيرة التي زعمت بان تشي تفوه بها ، والتي تعلن فشله . لكن النضال سيستمر بعد موت تشي والحركة الثورية لن تتوقف
اختفائه -
لم يرتح جيفارا للحياة السياسية فاختفى، ونشرت مقالات كثيرة عن مقتله لكي يرد لعل رده يحدد مكانه لكنه لم يرد.
نشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية شائعات تدعي فيها اختفاء إرنستو تشي جيفارا في ظروف غامضة، ومقتله على يد زميله في النضال القائد الكوبي فيدل كاسترو، ممااضطر الزعيم الكوبي للكشف عن الغموض الذي اكتنف اختفائه من الجزيرة للشعب الكوبي فأدلى بخطابه الشهير الذي ورد في بعض أجزائه ما يلي:
لدي هنا رسالة كتبت بخط اليد، من الرفيق إرنستو جيفارا يقول فيها: أشعر أني أتممت ما لدي من واجبات تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك، وأستودع الرفاق، وأستودع شعبك الذي أصبح شعبي. أتقدم رسميا باستقالتي من قيادة الحزب، ومن منصبي كوزير، ومن رتبة القائد، ومن جنسيتي الكوبية، لم يعد يربطني شيء قانوني بكوبا.
في أكتوبر 1965 أرسل جيفارا رسالة إلى كاسترو تخلى فيها نهائيا عن مسؤولياته في قيادة الحزب، وعن منصبه كوزير، وعن رتبته كقائد، وعن وضعه ككوبي، إلا أنه أعلن عن أن هناك روابط طبيعة أخرى لا يمكن القضاء عليها بالأوراق الرسمية، كما عبر عن حبه العميق لكاسترو ولكوبا، وحنينه لأيام النضال المشترك.
أكدت هذه الرسالة إصراره على عدم العودة إلى كوبا بصفة رسمية، بل كثائر يبحث عن ملاذ آمن بين الحين والآخر. ثم أوقف مساعيه الثورية في الكونغو وأخذ الثائر فيه يبحث عن قضية عالمية أخرى
نصب تذكاري لدخول تشي إلى سانتا كلارا بكوبا
اغتياله :
ألقي القبض على اثنين من مراسلي الثوار، فاعترفوا تحت قسوة التعذيب أن جيفارا هو قائد الثوار. فبدأت حينها مطاردة لشخص واحد. بقيت السي أي على رأس جهود الجيش البوليفي طوال الحملة، فانتشر آلاف الجنود لتمشيط المناطق الوعرة بحثا عن أربعين رجلا ضعيفا وجائعا. قسم جيفارا قواته لتسريع تقدمها، ثم أمضوا بعد ذلك أربعة أشهر متفرقين عن بعضهم في الأدغال. إلى جانب ظروف الضعف والعزلة هذه، تعرض جيفارا إلى أزمات ربو حادة، مما ساهم في تسهيل البحث عنه ومطاردته.
في يوم 8 أكتوبر 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة هاجمت قوات الجيش البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فرداً، وقد ظل جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات في منطقة صخرية وعرة، تجعل حتى الاتصال بينهم شبه مستحيل. وقد استمر "تشي" في القتال حتى بعد موت جميع أفراد المجموعة رغم إصابته بجروح في ساقه إلى أن دُمّرت بندقيته (م-2) وضاع مخزن مسدسه وهو مايفسر وقوعه في الأسر حياً. نُقل "تشي" إلى قرية "لاهيجيرا"، وبقي حياً لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل كلمة واحدة مع من أسروه. وفي مدرسة القرية نفذ ضابط الصف "ماريو تيران" تعليمات ضابطيه: "ميجيل أيوروا" و"أندريس سيلنيش" بإطلاق النار على "تشي".
دخل ماريو عليه متردداً فقال له "تشي": أطلق النار، لا تخف؛ إنك ببساطة ستقتل مجرد رجل"، لكنه تراجع، ثم عاد مرة أخرى بعد أن كرر الضابطان الأوامر له فأخذ يطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل تحت الخصر حيث كانت الأوامر واضحة بعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، إلى أن قام رقيب ثمل بإطلاق رصاصه من مسدسه في الجانب الأيسر فأنهى حياته.
وقد رفضت السلطات البوليفية تسليم جثته لأخيه أو حتى تعريف أحد بمكانه أو بمقبرته حتى لا تكون مزاراً للثوار من كل أنحاء العالم.
وقد شبّت أزمة بعد عملية اغتياله وسميت بأزمة "كلمات جيفارا" أي مذكراته. وقد تم نشر هذه المذكرات بعد اغتياله بخمسة أعوام وصار جيفارا رمزاً من رموز الثوار على الظلم. نشر فليكس رودريجيس، العميل السابق لجهاز المخابرات الأميركية (CIA) عن إعدام تشي جيفارا. وتمثل هذه الصور آخر لحظات حياة هذا الثوري الأرجنتيني قبل إعدامه بالرصاص بـ"لا هيجيرا" في غابة "فالي غراندي" ببوليفيا، في 9 أكتوبر(تشرين الأول) من عام 1967. وتظهر الصور كيفية أسر تشي جيفارا، واستلقائه على الأرض، وعيناه شبه المغلقتان ووجهه المتورم والأرض الملطخة بدمه بعد إعدامه. كما تنهي الصور كل الإشاعات حول مقتل تشي جيفارا أثناء معارك طاحنة مع الجيش البوليفي. وقبيل عدة شهور، كشف السيد فليكس رودريجيس النقاب عن أن أيدي تشي جيفارا بُترت من أجل التعرٌف على بصمات أيديه.
تشى جيفارا فى سطور
الميلاد : 14 مايو 1928
: الارجنتين
الوفاه : 9 اكتوبر 1967
:
بوليفيا
ملحوظه كل موضوع : لن يكون لدينا ما نحيا من أجله، ان لم نكن على استعداد أن نموت من أجله ( من اقوال تشى جيفارا )